بقلم: دعاء عوض
كانَ الظَّبْىُ الصغيرُ يتجولُ
ويَلهُو فِى الحُقولِ الفسيحةِ المُترَاميةِ، يستمتعُ بالخضرةِ والنقاءِ ويقفزُ
ويرقصُ حالمًا، وما إنْ لاحَتْ له الشَّمْسُ كقطْعةٍ مِتوهجةٍ فى كبدِ السماءِ حتى
راحَ يُغادِرُهَا بَعيدًا عَنْ قَيْظِهَا الشّدِيدِ وتّسَللَ إليهِ شُعورٌ بالحاجةِ
إِلى الظّلِ.
هنا وقَفَ يُراقِبُ حَتّى لاحَتْ أَمَامَهُ شَجَرةٌ
عاليةُ الأغْصَانِ. فرحَ الظَّبْىُ وَذهَبَ نَحْوَهَا ثُمَّ جلس أسْفلهَا مُحْتَمِيًا
بِأوْرَاقِهَا ورَاحَ فِى غَفلَةٍ قصيرةٍ، وَبَيْنَمَا كَانَ يَغْفُلُ طَرَقَتْ أُذُنَيْهِ
تغْرِيدَةُ عُصْفُورَةٍ. طَربَ الظَّبْىُ بِهَا وشَجَنَ بِصَوْتِهَا اَلْعَذْبِ. وَلَكّنَهُ
انْتَبَهَ وَفَتحَ عَيْنَيْهِ قائلًا: "آه يَبْدُو أنّهُ حُلْمٌ. عَلىّ أنْ أُكْمِلَ
نَوْمِى" وَقبْلَ أنْ يَجْفلَهُ الظّلامُ وَتَغْشُو أهْدَابَهُ مُقلَتيهِ تّكَررَ
الصّوْتُ.
أطْرَقَ قَلِيلا ثُمَ أَخَذَ يَبْحَثُ وَيَنْظُرُ عَالِيًا
حَتّى وَجَدَهَا تّرقُصُ وَتُغّنِى فِى غُصْنٍ صَغِيرٍ أعلَى الشّجَرَةِ الّتِى
يَحْتَّمِى بِها. نَظَرَ الظَّبْىُ إلّيْهَا ثُمَ قَال:
أيَتُهَا الْعُصْفُورَةُ الرَشِيقَةُ كَمْ أنْتِ جَمِيلَةٌ.
تُغّرِدِينَ وَتُنْشِدينَ بِأعْذَبِ الْكَلمَاتِ وَالألْحَانِ. فهَلْ تّقْبَلينَ
ودِّى وَصَدَاقتِى؟ نَفَشَتْ اَلْعُصْفُورَةُ الصَغَيرَةُ رِيشَهَا وَحَّلقتْ عَالِيًا
تَجُوبُ رَأسَهُ يَمِينًا ويَسارًا فِى حَلقةٍ دَائِريَةٍ لِفَترةٍ طويلةٍ حَتَّى
كَلَّتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَتْ:
كَيْفَ بِعُصْفُورَةٍ مِثْلِى تَطِيرُ وَتُحَّلِقُ فِى الفضَاءِ
أنْ تُصَاحِبَ ظَّبْيًا مِثلُكَ لا تتعَدَّى حَوَافِرُه تِلكَ المِسَاحَة القصِيرَة
مِنَ الأَّرْض؟ لا يَجُوزُ لِى أنْ أنْظُرَ إليْك, عَلَيْكَ أنْ تُعِيدَ حِسَابَاتِكَ
أيُهَا الصَغِيرُ وَسَاعَدَكَ اللهُ فِى سَيْرِكَ عَلى الكُثْبانِ إذا مَا صَادَفكَ
عَدُوٌ. ثُمَّ ضَحِكَتْ العُصْفُورَةُ ساخرةً وَحَلَّقَتْ عَالِيًا وَهِىَ تَّزِيدَهُ
ألمَا وَمَقتًا.
صَمَتَ الظَّبْىُ الصَغِيرُ وَارْتدَّ طُرْفَة مِنْ عَيْنَيْهِ
فِى خَجَلٍ, ثُمَّ حَاوَلَ السَّيْرَ بَعِيدًا عَنْهَا وَلَكِنَّهُ تَوَقفَ صَامِدًا
وَحَدَّثَ نَفْسَهُ:
"هَذا صُنْعُ الخَالِقِ وَكَيْفَ لهَا أنْ تَتَّمَرَدَ
عَلَّىَ مَا حَبَانِى اللهُ بِى وأنْعَمَهُ عَلىّ فرُبمَا لِحِكْمَةٍ جَعَلَّهَا تَطِّيرُ
وَتَمْشِى وَبِرَغْمِ مِنْ ذلِكَ فهىَ لا تَمْلِكُ الأرْجُلَ القَوِيَّة مِثلِى. كَانَ
يَجب عَلَّىَ أنْ أرُدَّ كِبْريَائِى وَلكِنْ مَّاذا يَجْدِى؟! الأحْرَىَ أنْ أتْرَكَهَا
لِمَأسَاتِهَا".
سَارَ الظَّبْىُ بَعِيداً عَنْهَا وَفِى طَرِيقِهِ سَمِعَ طَلْقَ قذَّائِفِ نَارِيةٍ
دَفعَتْهُ لِلعَوْدَةِ لِلْشَجَرَةِ لِيَخْتَبِّىءَ بِهَا، حينئذٍ فُوجِىءَ بالعُصْفُورَةِ
مُلْقَاةً عَلىَ الأرْضِ تَتَأوَّهُ قائِلة:
آهٍ آهٍ، سِيقانِى الجَمِيلةُ لقدْ اصْطادَّنِى ذلِكَ
العُنْفُوَانِى لمْ أسْتَطِعْ السَيْرَ بَعدْ وَلا التَحْليقَ عَالِيًا. آهٍ آهٍ .
فُوجِئتْ العُصْفُورَةُ بذلكَ الظَّبْىُ يَضْحَكُ سَاخِرًا وَهُوَ يَقُولُ:
" مَا طارَ طيْرٌ وَارْتَفعْ إلا كَمَا طارَ وَقعْ"
شُكْراً عُصْفُورَتِى الرَشِيقةُ سَأوَدُعُكِ وَأنَا المُنْتَصِرُ".